رحلة الضرير والمبصر
تناثرت رسوم القطن في صفحة السماء واعتل النسيم داعياً أزهار الحقل لرقصة الابتهال السنوية ، فقررت دار المكفوفين تنظيم رحلة ربيعية لنزلائها للتخفيف عنهم بقضاء يوم الجمعة في ربوع احدى الهضاب الموصوفة بروعة رياضها و بطبيعتها الخلابة ، وبحلول الموعد حطت رحالهم تلك الأرض ، فأصابتهم نشوة السعادة فور ترجلهم حين لامست أوصالهم تلك النسائم المشبعة برحيق النرجس وعطر الغار ، ومع رقرقة مياه الجدول وحفيف أوراق السنديان والصفصاف تناهت لأسماعهم أصوات من جرف قريب ضنها بعضهم ثغاء قطيع من الأغنام والبعض الآخر خالها أصوات رف من الاوز أو الحجل ، لكن أحدهم لايستطيع الاقتراب لتقصي اليقين خشية التعثر بحجر أو ثلم ، فارتأوا أن يستعين كل منهم بأحد أفراد جمع مرتحل ممن منَ الله عليهم بنعمة البصر ، يستهدي به تعرج الدرب ويقرأ له ايماءات الطيف وينبئه بواقع الصوت المنبعث من الجرف ، فتأبط الضرير المبصر مرشداً ودليل وبدأوا المسير أزواجاً متتابعة ، فدفعت شذوة الفضول المبصر من الزوج الأول لسؤال صاحبه عن اسمه وتاريخ السواد في عينيه فأجابه :
اسمي طه حسين بن علي اصبت بالرمد في الثالثة من عمري فضاع بصري على أثره ،أكرمني الله بحفظ القرأن الكريم منذ صغري ،درست الحضارة المصرية القديمة والاسلامية والجغرافيا والتاريخ والفلك والفلسفة والأدب وعكفت على انجاز رسالة الدكتوراه الأولى في الآداب من الجامعة المصرية بتاريخ 15 مايو 1914بعد طردي من الأزهر الشريف بسبب أفكاري المتمردة على مناهجه ثم حصلت على درجة الدكتوراه الثانيه عام 1919من جامعة مونبليه الفرنسية بعلم الاجتماع ثم اتممت الدراسات العليا في اللغة اللاتينية والرومانية وعينت بتلك الجامعة استاذاً لتاريخ الأدب العربي ،وفي عام 1925 عينت استاذا في جامعة مصر الحكومية وأصدرت كتابي في الشعر الجاهلي الذي أثار عواصف الجدل في الأوساط الأدبية وأصبحت بعدها عميداً لكلية الآداب عام 1930 وتحديت الحكام آنذاك برفضي منح الدكتوراه الفخرية لبعض السياسيين وأطلقت علي نخبة المفكرين لقب عميد الأدب العربي .
وفيما يروي طه لدليله نبذة عن سيرته ذابت وجنتا الدليل احمراراً وخجلاً خشية أن يسأله التعارف ، فماذا سيخبره أيقول له حقيقة كونه قاضياً مبصراً عجزت عيناه عن النظر لرسم سيدة العدالة التي تعلو قوس محكمته أم يخبره عن نكث يمين الحكم بالعدل والقسطاط ، يمين صاغتها كتب السماء وجانبها عالم مبصر أساء الأمانة ، فقرر أن يطأطئ رأسه وأن يلتزم الصمت .
واعتلا صوت المبصر الثاني يتحقق قصة عمى صاحبه فأجابه :
أنا رهين المحبسين أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان القضاعي التنوخي المعري فقدت بصري في الرابعة من عمري على اثر اصابتي بالجدري ولا أعرف من الألوان الا الأحمر نطقت الشعر وأنا في الحادية عشر وناديت بحقوق المنطق ضد ادعاءات العادات والتقاليد ، عرفت بشعري وفلسفتي المثيرة للجدل بعد دراستي للغة الأدب والحديث والتفسير والنحو وأحطت بعلوم الأديان والمذاهب والتاريخ ، ماغادرت بيتي البتة وعكفت عن أكل اللحوم ومشتقاتها وحاربت الفكر الديني السائد المتعصب المبني على الأوهام والخرافات وكتبت فيما كتبت رسالة الغفران وفقرات وفترات والأيك والغصون وتاج الحرة وعبث الوليد و..........
وفيما يتابع المعري تعداد بديعه ، شعر وهو الشاعر بنبض صاحبه المبصر يعتلج وبنفسه يختلج فسأله :
ما بالك يا دليل مهتاج كذليل تراك رأيت وحشاً أم لبوحي لا تميل؟
فالتزم المبصر الصمت صاغراً حائراً ، وكان يحمد ربه على عمى المعري حتى لا يراه فيعرفه ،فهو الذي وعلى مدار ربع قرن أنارت صورتة شاشة التلفاز وزينت مقالاته التافهة الكاذبة صفحات الجرائد ودور النشر وتلطخت يداه بدماء الأبرياء وامتلأت جيوبه بمال من وثقوا به ، وبماذا يفاخر أمام قامة المعري ؟ ترى بقصص الماجنات من خليلاته أم بمغامراته أيام تهريبه لآثار بلاده ومقدراتها ،فوقع خياره الحكيم على التكتم والأستمرار في الصمت خشية من بصيرة الأعمى ولسانه ، وراح يسترق كعادتة السمع الى حديث الزوج الثالث واذ بضريرهما يقول:
أنا رئيس أطباء زمني داوود الانطاكي ، ولدت ضريراً ،نهلت من علوم دمشق والقاهرة والأناضول ، فتمخضت مسيرة علمي في الطب والفلك والأدب والمنطق عن ست وعشون مؤلفا أشهرها تذكرة أولي الألباب والجامع للعجب العجاب - ثم استطرد الانطاكي بعجلة - وأنت ياصديقي المرشد من تكون - ؟
فانكمش صدر المرشد المبصر من السؤال المباغت ، وراحت شفتاه المتهدلة ترشق الحروف بعشوائية تشبه ماضيه وحاضره ، وهو الطبيب المشهور معذب القلوب وسارق الأعضاء والجيوب ، ليس له باع في العلم سوى ما أورثه ايا جده الضرير الانطاكي لم يضف اليه سوى الكثير من سوء السلوك وقلة الوجدان وصور لشخصه علقها على جدران مدينته ليوصله الوصوليون والنائمون لكرسيه في مجلس الأمة ، فغرق الطبيب المرشد في صمته ارتعادا من الطبيب الضرير.
وهكدا تابعت أزواج المرتحل تعارفها على نفس المنوال وفيها بمن فيها ، من العظماء أمثال بشار بن برد أمام الشعراء وهاجي الخلفاء الذي ولد كفيف العينين ، والشاعر الأديب المقاوم اليمني عبد الله البردوني الذي ذهب الجدري ببصره وهو في السادسة من عمره ، والفنان التشكيلي المغربي المبدع اسماعيل المسعودي الذي فقد بصره تدريجيا وأصيب بالعمى في العاشرة من عمره ، والمخترع عالم النحو والأنساب والتاريخ الامام عبد الرحمن بن عبد الله السهيلي الذي كف بصره وهو في السابعة عشر من عمره ، والطبيب الشاعر الفيلسوف الأندلسي الحناط محمد بن سليمان الرعيني القرطبي الذي ولد أعشى وكف بصره بعد أن تعلم ، والشاعر الفضل بن جعفر بن الفضل بن يونس النخعي فارسي الأصل ، وصاحب كتاب المختصر وكتاب الحدود وكتاب القياس هشام بن معاوية الكوفي ، وقاضي قضاة مصر شيخ الاسلام زكريا بن محمد الأنصاري السنيكي المصري ، والعالم أبو الحسن الأزجي ، و العلامة الأديب قتادة بن دعامة السودسي ، وصاحب كتاب الناسخ والمنسوخ أبو بكر محمد بن وسيم الطليطلي ، و عالم النحو هبة الله بن سلامة البغدادي ، وهوميروس أبو الشعراء صاحب أعظم الملاحم البطولية في التاريخ ، وملئون واصف الفردوس ، والثمانيني ، وابن كثير ، والقاضي أبو المفاخر الرازي و أبو حيان النحوي الغرناطي وعلوان الأسدي وحسين الشيرازي وغيرهم الكثيرين ممن لم تقف اعاقة البصر لديهم دون أغناء موسوعة العلوم .
حتى اذا وصل الرحل الى قعر الجرف قال الأدلاء للمبصرين.. يا عميان ألا تكفيكم اعاقة العمى فأتبعتموها بالصمم ! ماكانت الأصوات التي تناهت لأسماعكم الا تراهات وأوهام ، فها هو الجرف أصم لا تدانيه رياح الربيع ولا تسكنه انعام القطيع فهلموا نعود أدراجنا ونقودكم لمركبكم في الأعلى .
فانبرا العميان منتفضين ، شقوا طريقهم للأعلى بأنفسهم بجرأة دون وأدة أو انتظار مخلفين أدلائم في القعر ، مدركين في قرارة أنفسهم أن الصوت الذي طرق آذانهم و أستقصوه وبكل أسف ماهو الا أنين الحال التي آل اليها المبصرون ، الذين أخذوا العلم فلم ينفعوه وشهدوا الحق فلم يشهدوه واحتكم اليهم المظلوم فسجنوه و أوكل اليهم العهد فخانوه والأمر أسترسلوا فيه فعدلوه ، وتابعوا تجوالهم داخل ربيع نفوسهم بعد انكسار قلوبهم على مآل أصحاب البصر ممن كرمهم الله وما شكروه.
المحامي علاء مروان مراد
السبت يناير 15, 2011 3:04 am من طرف غسان أبوراس
» هكذا فصولكِ الاربعه
الجمعة ديسمبر 31, 2010 1:22 pm من طرف عاشقة الورد
» كل الشكر للوموي
الأربعاء يوليو 28, 2010 4:06 pm من طرف الوموي
» اتمنى ان اتعرف عليكم
الثلاثاء يوليو 27, 2010 7:01 pm من طرف وسيم ابوكرم
» عاطف دنون الحمدلله على السلامه
الثلاثاء يوليو 27, 2010 6:32 pm من طرف وسيم ابوكرم
» كلمة شكر
الأحد يوليو 11, 2010 1:11 am من طرف ابوعمر
» ايها المغتربون استمتعو حيث انتم
الأربعاء يوليو 07, 2010 7:55 pm من طرف ابو يوسف
» خربشات إمرأة...ا
الخميس يوليو 01, 2010 1:31 am من طرف غسان أبوراس
» سويداء الوطن ... يرى النور
الثلاثاء يونيو 29, 2010 12:01 pm من طرف سيسو
» اعتذار عن خلل فني
السبت يونيو 12, 2010 7:32 pm من طرف الوموي
» هل نستطيع سلق بيضه بالموبايل
الثلاثاء يونيو 01, 2010 11:34 am من طرف الوموي
» صور لا تراها إلاّ في مصر
الثلاثاء يونيو 01, 2010 11:21 am من طرف الوموي
» نطرح للنقاش : ماذا تفعل عندما تشتاق لاشخاص لم يعد لهم وجود في حياتك
الإثنين مايو 31, 2010 9:43 am من طرف عماد أبو لطيف
» عذرا انه حلم
الإثنين مايو 31, 2010 9:30 am من طرف عماد أبو لطيف
» عذب الكلام
الخميس مايو 27, 2010 7:33 am من طرف عنب الجبل
» عمل تخريبي في أحد الأراضي المزروعة تفاح في بقعاثا
الأربعاء مايو 26, 2010 10:44 pm من طرف عفاف
» اخراج ... ابو عجاج
الأربعاء مايو 26, 2010 5:23 pm من طرف سيف بن ذي يزن
» Q & A
الأربعاء مايو 26, 2010 5:10 pm من طرف سيف بن ذي يزن
» مني مثل ومنك مثل..
الأربعاء مايو 26, 2010 4:53 pm من طرف سيف بن ذي يزن
» لنبق متألقين دوماً
الثلاثاء مايو 25, 2010 10:50 am من طرف غسان أبوراس