نظرية التطور – الجزء الأول
( ما قبل نظرية التطور لتشارلز دارون )
عندما اطلع توماس هكسلى على كتاب أصل الأنواع لتشارلز دارون لأول مرة, قال لنفسه: "يالك من غبى. كيف لم تفكر فى هذه النظرية من قبل."
لا يعنى هذا أن أفكار دارون كانت تافهة أو ساذجة ، لقد إنبهر هكسلى بأفكار نظرية التطور الثورية وكرس معظم وقته للدفاع عنها, ونشرها فى المحافل العلمية. ساهم هكسلى فى تنقية وتعديل بعض أجزائها. مما جعله يستحق لقب "الحارس الأمين لدارون".
الغريب أن نظرية التطور لدارون, رغم خطورتها وتأثيرها الثورى فى عالم البيولوجيا, هى نظرية فى غاية البساطة والوضوح. كتبت بلغة إنجليزية عادية سهلة. يفهمها من يستطيع أن يتابع حججها المنطقية , أو من لديه القدرة على الشك, وقدر معقول من إستقلال الفكر. وهما هبتان لا تتوافران فى الكثيرين منا .
فى عام 1859م, كان الوسط العلمى فى أوروبا مشبعا بأفكار التطور ، وكانت مسألة وقت فقط قبل أن يتوصل أحد علماء البيولوجيا إلى نظرية التطور. فى الواقع لم يقم دارون بنشر نظريته إلا بعد أن وصله عن طريق البريد, بحثا من ألفريد راسل والاس (عن التطور) عبارة عن تلخيصا لما كان دارون يقوم به فى السر لمدة عشرين سنة.
لماذا لم ير هكسلى وغيره من العلماء, بإستثناء والاس, ما قد رآه دارون؟ هذا يذكرنى بالقصة التي سبق و أن ذكرها الأخ أبو علم ( الزجاجة و الدجاجة ) ، أو بقصة أحد علماء الغرب الذي ذهب إلى الهند طالبا الحكمة من ناسك يعيش فوق هضبة التبت ، يلتحف بقطعة قماش حول وسطه, ويقتات بالماء وفتات الخبز. عندما رأى الناسك الضيف, وبعد أن سأله عن مراده, قدم له كوبا من الشاى. أخذ يصب الناسك الشاى فى الكوب حتى ملئ وبدأ يسيل من جوانبه.
لكن الناسك مستمر فى صب الشاى فى الكوب. فقال له العالم , ياسيدى لقد ملئ الكوب ولم يعد يقبل المزيد . فأجابه الناسك على الفور : "هكذا يمتلئ عقلك بالأفكار السابقة ، كيف أعلمك شئ وعقلك , ممتلئ مثل هذا الكوب , ولم يعد يقبل المزيد."
هذا هو السبب فى أن الأفكار الجديدة تجد صعوبة بالغة لكى تجد لها مكانا بين الأفكار القديمة الراسخة فى عقول الناس . فدارون لم يكتشف شيئا جديدا لم يكن معروفا أيامه. الحقائق التى كان يجمعها كانت معروفة وتم مناقشتها بين العلماء. لكن لا أحد من علماء عصره , كان كوبه فارغا بحيث يستطيع أن يرى ما قد رآه دارون . المعلومات القديمة كانت تقف حجر عثرة فى طريق الفكر الجديد.
كان الاعتقاد السائد ما قبل القرن التاسع عشر أن العالم الذي نعيشه (الأرض وما عليها من حياة) لها نفس الصورة الثابتة و المستقرة و لم تتغير منذ الأزل .
بسبب هذا الاعتقاد المتأصل فى نفوس الناس, لم يتنبه أحد لمعنى وجود بقايا الأحياء المتحجرة (Fossils). البقايا المتحجرة التى توجد فى أشكال مختلفة مثل بقايا الحيوانات الصدفية و الهياكل العظمية, لم تؤخذ بجدية . كان ينظر لها على أنها مجرد ديكورات ونقوش , أو جاءت بمحض الصدفة . لا تعنى شيئا أكثر من ذلك.
فى القرن السابع عشر, أعلن عالم الأحياء الطبيعية (جون راى) و بنتائج الإكتشافات الجيولوجية الجديدة فى القشرة الأرضية وجود, لا طبقة واحدة, ولكن العديد من الطبقات. كل منها بها بقايا أحياء متحجرة لمخلوقات منقرضة, لم يعد لها وجود على سطح الأرض. فى نهاية القرن الثامن عشر من القرن العشرين, أصبح من المعروف أن الصخور تحتوى على تسجيل كامل لكل الأحياء المنقرضة, سبق أن عاشت على سطح الأرض . فى الطبقات السفلى للقشرة الأرضية, توجد بقايا أحياء متحجرة لكائنات بدائية بسيطة. مثل كائنات وحيدة الخلية والأميبا والديدان. فى الطبقات التى تليها, نجد مخلوقات متحجرة أكثر تعقيدا. وبعد عدة طبقات, نصل إلى بقايا الفقاريات . وبعد طبقات أخرى نرى بقايا أسماك. وبعد ذلك نرى آثار الزواحف والطيور. وفى الطبقات الأخيرة والقريبة من سطح الأرض, نجد بقايا الثدييات والإنسان . شريط سينمائى يبين تسلسل الكائنات مع الزمن.
هذه الحقيقة, أنكرها بعض العلماء و بدلا من الإعتراف بإنقراض بعض الأحياء, التى لم تستطع التكيف مع تغير المناخ والظروف التى كانت تعيش فيها, زعموا ان هذا التدرج فى طبقات القشرة الأرضية ليس له علاقة بفكرة التطور وشكل المخلوقات وطبيعتها ليس لها علاقة بالمناخ والبيئة التى تعيش فيها .
فى عام 1859م, عندما نشر دارون كتابه أصل الأنواع يشرح فيه نظريتة, كان المجتمع العلمى مستعدا لقبول فكرة التطور. السبب هو روح العصر, والتغيرات الخطيرة التى ظهرت فى باقى فروع العلوم فى الفيزياء والفلك والجيولوجيا.
خلال العصور الوسطى, كان العالم نظام مغلق . مركزه الإنسان, الكوارث الطبيعية لا تفسير لها ، وكذلك الأمراض و الأوبئة .
مع قدوم القرن التاسع عشر, بدأت الصورة تتغير. الأرض لم تعد مركز الكون. ووضعت فى مكانها الطبيعى, لكى تدور مع باقى الكواكب حول الشمس. الكوارث الطبيعية أصبح لها تفسيرا علمى . المعجزات والخوارق الطبيعية, أصبحت تفسر بالقوانين الفيزيائية . الإنسان بدأ يثق فى العلم على أنه الشافى المعافى لعلله وأمراضه, والمخّلص الحقيقى لمتاعبه وآلامه, والمحقق الوفى لأحلامه وآماله.
لكن, هل كانت هناك شواهد ودلائل فى ذلك الوقت تشير إلى تطور الأحياء؟ نعم. فى عام 1830م, كانت الشواهد كثيرة. مثلا, كان آدم سيدجويك يقول: " كجيولوجى, أرى أن المخلوقات تنزع للتقدم والإرتقاء. لكنى كمسيحى مؤمن, لا أعتبر هذا دليلا وشاهدا على عملية الخلق المستمرة."مع نهاية القرن الثامن عشر, كان علماء البيولوجيا يعرفون أن المخلوقات الحية, لها أعضاء خاملة أو ليس لها فائدة. فمثلا الحشرات التى لا تطير, لها بقايا أجنحة صغيرة. الدواجن المنزلية والبط المنزلى له أجنحة عديمة الفائدة. أرجل البط المنزلى بها غشاء لا تحتاجه على الأرض و يعوق حركتها. حيوانات الكهوف لها عيون أثرية لا ترى بها. أنواع من الذباب لا تطير بالرغم من وجود أجنحة لها. بعض الثعابين, لها بقايا أرجل غير مستخدمة. الإنسان له عظمة العصعص أسفل العمود الفقرى, وعظم ما بين الفكين, والزائدة الدودية عديمة الفائدة, بل تلتهب وتنفجر وتعرض حياته للخطر, وعدم وجودها أفضل. هناك ضروس العقل وأصابع الرجلين وثديى الرجل و و و ....
اذن ما تفسير وجود هذه الأعضاء الخاملة ؟!
دارون رأى أنه يستطيع أن يقدم تفسيرا لهذه الشواهد.... إذا إفترضنا أن هذه المخلوقات قد جاءت من سلالات كانت مجهزة بهذه الأعضاء, لكن لم تكن ضامرة فى الماضى . هذه الأعضاء فقدت صلاحيتها تدريجيا بعدم الإستخدام, عندما تأقلم الكائن على الحياة الجديدة.
دارون كان مندهشا من حقيقة أن يد الإنسان وهى منقبضة, تشبه يد الخلد (ضرب من الجرذان) المستخدمة فى الحفر، وكذلك زعنفة الدلفين, وجناح الخفاش، الشبه شديد من الناحية التشريحية. كل منها لها نفس عدد العظام والتركيب.
فى القرن الثامن عشر, لاحظ علماء التشريح أن الجنين عند تكوينه يمر بمراحل نمو تشبه مراحل تطور الكائنات الحية. فمثلا عند الإنسان, الجنين تتكون له خياشيم تشبه خياشيم السمك. فى بعض مراحل التكوين الأولى, لا يمكن التمييز بين جنين الزواحف وجنين الطيور وجنين الثدييات. أليس هذا دليلا على أن جميع المخلوقات لها أصل واحد؟
الفلاحون والمشتغلون بتربية الحيوانات والطيور, يلاحظون التنوع الكبير لفصائل وأنواع هذه الحيوانات. وأن التهجين بين الفصائل المختلفة ينتج عنه فصائل جديدة. تنتقل صفاتها المكتسبة بالتهجين إلى أجيال جديدة. بعد عدة أجيال تصبح هذه الفصائل الجديدة بصفاتها المكتسبة مستقرة. وكما يقول دارون, هذا ما يحدث فى الطبيعة طوال الوقت.كان من المعروف قبل دارون أن الحيوانات تتكاثر أسرع من معدل زيادة الغذاء المتوافر لها. هذا يؤدى بالطبع إلى المنافسة الرهيبة التى نشاهدها بين الحيوانات للبقاء على قيد الحياة. تنبه كومتيه دى بوفن وإيراموس جد دارون إلى هذا الأمر. لكن شارلز دارون كان الأول بين العلماء الذى رأى الفرق بين ما يقوم به مربى الحيوانات من إختيارهم للسلالات الجيدة, وما تقوم به الطبيعة من نفسها بإختيارها للسلالات القوية التى تستطيع البقاء.
قبل دارون جاء باتيست لامارك, العالم الفرنسى الكبير, فى القرن الثامن عشر ليقول أن الكائنات تتغير بإستمرار. ذلك بتأثير عوامل الطبيعة والتزاوج واستعمال الأعضاء أو إهمالها. الكائنات الحية الراقية نشأت من كائنات بدائية خلال فترة زمنية طويلة جدا. هذه الكائنات البدائية, نشأت بدورها ذاتيا من المواد الجامدة فى فترة من فترات تطور الأرض. التطور يحدث كما يرى لامارك, ببطء شديد, ويستغرق زمنا طويلا. الأنواع لم تضمحل وتنقرض, بل تغيرت تدريجيا وتطورت, ثم تحولت إلى أنواع جديدة.
تستند نظرية لامارك إلى عاملين أساسيين هما:
- إستعمال أى عضو من أعضاء الجسد, يزيد من حجمه وقوته. أما إهماله وإغفاله, فيسبب ضموره وضعفه.
- التغيرات الناجمة عن إستعمال أو إهمال العضو, تنتقل بالوراثة إلى الأبناء, وتتكرر هذه العملية لعدة أجيال قادمة.
حسب نظرية لامارك, البيئة والمجتمع الذى يعيش وسطه الكائن هى التى تشكله وتتحكم فى شكل أعضائه. الأشجار المرتفعة هى المسؤولة عن طول رقبة الزرافة. والبرك والمستنقعات هى التى جعلت أرجل الطيور طويلة حتى تستطيع أن تبقى جسمها خارج الماء. عدم إستخدام هذه الميزة يجعل رقبة الزرافة ورجلى الطائر, تعود إلى طولها الطبيعى. الرقبة والأرجل الطويلة تورث إلى الأجيال اللاحقة. عدم إستخدام أصابع أرجلنا جعلها ضامرة ضعيفة.
بالرغم من خطأ نظرية لامارك, إلا أنها لاقت قبولا واسعا بين العلماء لبساطتها ومعقوليتها. وظلت سائدة حتى ظهور نظرية التطور لدارون.
فى عام 1844م وقبل أن ينشر دارون أصل الأنواع, صدر كتاب تحت عنوان: "آثار التاريخ الطبيعى للخلق". بمجرد صدور الكتاب, ثارت ضجة عارمة وإجتاح الناس غضب جارف. سبب الغضب هو إثبات المؤلف, بإستخدام بقايا الكائنات المتحجرة, أن عملية التطور مستمرة, لم تتوقف منذ بداية الخلق. مؤلف الكتاب كان الإسكتلندى روبرت تشامبرز.
بسبب رد الفعل العنيف الذى أحدثه هذا الكتاب, كان دارون مترددا فى نشر كتابه أصل الأنواع. وكان دارون يعتبر نشره لنظريته بمثابة إعتراف بجريمة قتل. لكن فى عام 1859م, كان العالم أشد تقبلا لفكرة التطور من ذى قبل.
لكن من هو دارون هذا الذى نتحدث عنه, وما هى نظريته, وكيف كان رد فعل العلماء والعامة على هذه النظرية الهامة والخطيرة؟ هذا ما سوف نتابعه فى المقالات القادم ( كل ثلاثاء ) .
السبت يناير 15, 2011 3:04 am من طرف غسان أبوراس
» هكذا فصولكِ الاربعه
الجمعة ديسمبر 31, 2010 1:22 pm من طرف عاشقة الورد
» كل الشكر للوموي
الأربعاء يوليو 28, 2010 4:06 pm من طرف الوموي
» اتمنى ان اتعرف عليكم
الثلاثاء يوليو 27, 2010 7:01 pm من طرف وسيم ابوكرم
» عاطف دنون الحمدلله على السلامه
الثلاثاء يوليو 27, 2010 6:32 pm من طرف وسيم ابوكرم
» كلمة شكر
الأحد يوليو 11, 2010 1:11 am من طرف ابوعمر
» ايها المغتربون استمتعو حيث انتم
الأربعاء يوليو 07, 2010 7:55 pm من طرف ابو يوسف
» خربشات إمرأة...ا
الخميس يوليو 01, 2010 1:31 am من طرف غسان أبوراس
» سويداء الوطن ... يرى النور
الثلاثاء يونيو 29, 2010 12:01 pm من طرف سيسو
» اعتذار عن خلل فني
السبت يونيو 12, 2010 7:32 pm من طرف الوموي
» هل نستطيع سلق بيضه بالموبايل
الثلاثاء يونيو 01, 2010 11:34 am من طرف الوموي
» صور لا تراها إلاّ في مصر
الثلاثاء يونيو 01, 2010 11:21 am من طرف الوموي
» نطرح للنقاش : ماذا تفعل عندما تشتاق لاشخاص لم يعد لهم وجود في حياتك
الإثنين مايو 31, 2010 9:43 am من طرف عماد أبو لطيف
» عذرا انه حلم
الإثنين مايو 31, 2010 9:30 am من طرف عماد أبو لطيف
» عذب الكلام
الخميس مايو 27, 2010 7:33 am من طرف عنب الجبل
» عمل تخريبي في أحد الأراضي المزروعة تفاح في بقعاثا
الأربعاء مايو 26, 2010 10:44 pm من طرف عفاف
» اخراج ... ابو عجاج
الأربعاء مايو 26, 2010 5:23 pm من طرف سيف بن ذي يزن
» Q & A
الأربعاء مايو 26, 2010 5:10 pm من طرف سيف بن ذي يزن
» مني مثل ومنك مثل..
الأربعاء مايو 26, 2010 4:53 pm من طرف سيف بن ذي يزن
» لنبق متألقين دوماً
الثلاثاء مايو 25, 2010 10:50 am من طرف غسان أبوراس