بارودة ابو تركي ... رائعة ناصر جميل الحجلي
لم ينته والدي وقد عرف عنه حبه للإيجاز والاختصار من حديثه إلا بعد أن سمعنا صرير البوابة المشدودة من خشب وبعض الصفيح ، والذي لم يتوقف إلا حين باتت مشرعة لنا ، وبد ا الرجل المهيب مرحبا مهللا تحوم فوق محياه ابتسامة حازمة وارت خلفها عشرات سنين ، نسجت من كدح وتعب وألم ، و طرزت بجهاد بدأ مع صبح العمر ولم ينته حتى اليوم .
كان ذلك في منتصف نيسان 1981 والربيع يطل من كل الجهات ، يتسلق الجدران الحجرية ، يتنفس من ثغور مداميكها ، بينما البابونج ينثر عبقه الممتد بين جنبات الأزقة – الرطبة مسافة والموحلة مسافات – وفوق الأسطح الترابية التي نجت من دك مداحل البازلت ومواعيسها في شتاء انصرم ولم تنصرم حكاياه ، وقد فاقت تصافح وجه الشمس وتغتسل ببقايا السحب .
كان كل ما وراء تلك البوابة يوحي بالألفة و الطمأنينة ، شجرة التوت تستعد لموسم الثمر ، مساكب الرشاد والنعنع وأشتال اللوبيا امتدت بساطا أخضر بينما صعصعة الدجاج البلدي تتعالى من خلف سياج الخم المشبك وقد نثر خلفه القمح وبقايا من طبيخ يبدو أنها فضلة غداء الأمس ، وعلى حافة المصطبة المخصصة لبراميل المازوت اتكأ حجرا الجاروشة وبدا أنهما يغطان في سباتهما الشتوي ، تعلوهما حنفية لفت بقماشة بيضاء أخذها اصفرار باهت ولم أعرف أهي لتصفية الماء أم لدرء تصببه ، أما الممر القصير الذي يقود الى المضافة – فسوره صف من سطول وصفائح تنك فارت منها أشتال الحبق والعطرة ، وانتصب خلفه رتل من مكانس الجنة – فقد ارتسمت على صفحته شبكة شقوق عنكبوتية فزادته حسنا .
كانت نسائم الربيع تداعب لهب المدفأة الفخورة بأنها (ونتر ماستر) وقد تربعت وسط المضافة تشيع فيها حميمية لطالما أرادها مضيفنا أن تغمركل من حل ضيفا بين جنباتها بينما الباب ذو الطلاء الرمادي الذي تخاصمت درفتاه يدخل نورا فيعانق نور النوافذ المتلهفة للقاء الشمس وقت الظهيرة.
جلس والدي في الجهة الشمالية من المضافة وبقيت واقفا و رفض مضيفنا أن أصب القهوة بدلا عنه ، فشد الترمس – ماركة الطاووس –بمعصمه الأيسر نحو حزامه الجلدي وأدار بيمينه سدادته المشدودة بعناية تامة – نعم فمن أساسيات القهوة المرة أن تكون ساخنة دائما – فيما أمسكت كفه اليسرى بثلاثة فناجين – ماركة النخلات – لم تكن متداخلة تماما ، و ماهي لحظات إلا وكانت بأيدينا ، ترشـفها شفـاهنا ، ثم تطـلق أجمل التمنيات : (دايمة يا بوتركي ) .
كان كل شيء في مضافة أبي تركي له دلالته ، فهذا جرن مصنوع من خشب البطم وهذه محماس ملقاة إلى جانبه تسندها المبردة الخشبية ، أما الدلال النحاسية متعددة الأحجام فقد انتصبت فوق مصطبة مخصصة لطبخ القهوة وهناك حاشوشة مشدودة إلى حنك الباب ، يجانـبها منشـل تم الاستغناء عن خدمـاته .
كنت أنقل نظري بين ماعلقه أبو تركي على جدران مضافته حين تهدج صوته : إلي برفقتها أكثر من ستين سنة وماعندي أغلى منها ، وبعد برهة من الصمت التفت إلى والدي ضاحكا وقال : ( إبنك مش هين ، قلو فريدي مابتغار ولابتزعل لإنها لما إجت على هالدار لقتها قداما ) .
كانت تلك بارودة أبي تركي التي علقها على الجدار الشرقي وإلى جوارها صورة سلطان وصورة لبعض رجالات الثورة وصورة هاني وقد وشحت بالأسود ، وصورة مجيد على متن الميغ 21 وصورة نسيب وهو يتقلد وسام البطولة وصور كثيرة .
-التنهيدة العارمة التي ضج بها صدره لم توقفه عن الكلام – .. كانت معي وقت الثورة ماقصرَتْ ولا خذلتني ولا مرة وسلطان باشا بعدو بيسألني عنها وبيقلي متفرطش فيها وبيضحك ، هو عارف قيمتها ، وكنت بدي إفزع فيها سنة الثماني وأربعين ، بس صار اللي صار وحلفت إنو غير تظل بدكتها ليجي يوم نستد فيه ، وإجت حرب تشرين وطلعلتلها رصاصها من قلبي ، مجيد وقعلن (سبع) طيارات ، نسيب دمرلن(سبع) دبابات غير الي انعطبوا ، وياخسارة هالوطن هاني كان تحت التراب ، استشهد قبل مايساوي هلي كان لازم يساويه .
***********
ليست هي المرة الأولى التي تسوقني الذاكرة فيها إلى ذلك المكان العزيز فقد أحببته كثيرا ، وأحببت صاحبه كثيرا كثيرا ، و كثيرا ماتمنيت أن تنقلب نواميس الكون ، فلا يموت ، ولكنه فعلها ..
الدايم الله يابوتركي بل أيها العم ، لا بل : أيها الوالد الكبير أبا تركي
( ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام )
قال الحادي :
فرسـان لـوعـجـة سـكـر جمع العدى ماتـهـابـهـا
الحملة غدت مثل الشجر يـومـن غـوى حطـابها
فقد استعاد القدر ماجاد به ، مجاهدا كبيرا ، مكافحا نبيلا ، أبا فخورا ، وإنسانا كريما عزيزا . تاركا بارودة محشوة أبدا ، تتابع رحلتها ، تحكي للتاريخ حكاية مجاهد .. حكاية بطل ، وحكايا جبل .
قال الحادي :
جابـوك في يوم الزحم جمع البـيارق حوقـها
ماهابـو من نار الحمم يوم المنـايـا سـوقــها
أقبل الركب زرافات ، فترجلت لهم ، ابتردت علم الوطن ، ثم ودعت مرقدها ، مثلما ودعها راعيها ، هب الشباب متدافعين يزفونها ، فرقصت فوق أكفهم رقصة المحارب . زغردت النساء ، كل النساء ، ورفع أبطال الجهاد قبعاتهم ، وعزف النشيد الوطني ، وغادر مشيعا بتحية الفرسان ، وإحدى وعشرين طلقة من بندقية قال الرواة أنها مطلية بتراب وذهب .
تاركا خلفه قرية تكتب قصيدة وداع تخطها الاكف والمناديل المودعة.
وقال الحادي :
الحمية والمروءة والمراجل كارنا من ديدنا قبل اللبينة
الأهازيج تلون فضاء المكان ، تؤازرها موسيقى الفرقة النحاسية ، والباب المرصود بحرس الشرف مشرع على مصراعيه ، وطلائع الركب الظافرة أخذت تذوب بين أمواج المستقبلين بينما العروس الصارمة لتشق طريقها إلى جدار الوطن ، لتحط الرحال على صدره .
. . وأما عبارتها التي ما انفكت تحوم من فوهتها حتى أخمصها :
( كـان للـبارود شرفه .. وكان للبندقية عفافها )
فقد أيقظتني من حلم ما أروعه لو كان حقيقة ، فبارودة أبي تركي لم تزف ولم يكن هناك شباب ولا قبعات مرفوعة ولا زغاريد ولاعلم ولا نشيد وطني ولا بندقية مذهبة .
السبت يناير 15, 2011 3:04 am من طرف غسان أبوراس
» هكذا فصولكِ الاربعه
الجمعة ديسمبر 31, 2010 1:22 pm من طرف عاشقة الورد
» كل الشكر للوموي
الأربعاء يوليو 28, 2010 4:06 pm من طرف الوموي
» اتمنى ان اتعرف عليكم
الثلاثاء يوليو 27, 2010 7:01 pm من طرف وسيم ابوكرم
» عاطف دنون الحمدلله على السلامه
الثلاثاء يوليو 27, 2010 6:32 pm من طرف وسيم ابوكرم
» كلمة شكر
الأحد يوليو 11, 2010 1:11 am من طرف ابوعمر
» ايها المغتربون استمتعو حيث انتم
الأربعاء يوليو 07, 2010 7:55 pm من طرف ابو يوسف
» خربشات إمرأة...ا
الخميس يوليو 01, 2010 1:31 am من طرف غسان أبوراس
» سويداء الوطن ... يرى النور
الثلاثاء يونيو 29, 2010 12:01 pm من طرف سيسو
» اعتذار عن خلل فني
السبت يونيو 12, 2010 7:32 pm من طرف الوموي
» هل نستطيع سلق بيضه بالموبايل
الثلاثاء يونيو 01, 2010 11:34 am من طرف الوموي
» صور لا تراها إلاّ في مصر
الثلاثاء يونيو 01, 2010 11:21 am من طرف الوموي
» نطرح للنقاش : ماذا تفعل عندما تشتاق لاشخاص لم يعد لهم وجود في حياتك
الإثنين مايو 31, 2010 9:43 am من طرف عماد أبو لطيف
» عذرا انه حلم
الإثنين مايو 31, 2010 9:30 am من طرف عماد أبو لطيف
» عذب الكلام
الخميس مايو 27, 2010 7:33 am من طرف عنب الجبل
» عمل تخريبي في أحد الأراضي المزروعة تفاح في بقعاثا
الأربعاء مايو 26, 2010 10:44 pm من طرف عفاف
» اخراج ... ابو عجاج
الأربعاء مايو 26, 2010 5:23 pm من طرف سيف بن ذي يزن
» Q & A
الأربعاء مايو 26, 2010 5:10 pm من طرف سيف بن ذي يزن
» مني مثل ومنك مثل..
الأربعاء مايو 26, 2010 4:53 pm من طرف سيف بن ذي يزن
» لنبق متألقين دوماً
الثلاثاء مايو 25, 2010 10:50 am من طرف غسان أبوراس