نظرية التطور – الجزء الثالث
( نظرية التطور في مواجهة خصومها )
كان تشارلز دارون على وعى كبير بمدى خطورة نظريته فى التطور. لا لأن نظريته تقول بأن الكائنات الحية تتطور مع الزمن بتغير البيئة والمناخ, ولكن لأن سبب وأسلوب التطور الذى تقترحه نظريته يتعارض مع كل المعتقاد التى كانت منتشرة فى عصره.
فى 18 يونية عام 1858م, تلقى دارون رسالة بريدية مفزعة من شاب يدرس التاريخ الطبيعى إسمه "ألفريد رسل والاس", يطلب رأى دارون فى بحثه الذي قال فيه أنه يرى أن الإختيار الطبيعى يلعب دورا أساسيا فى تغيير شكل المخلوقات الحية.
صعق دارون عندما قرأ الخطاب, وكتب فى الحال رسالة إلى العالم الجيولوجى المشهور "ليل" يخبره فيها بأنه محبط . قائلا: "لقد توصل والاس إلى ما قد توصلت إلية طوال عمرى, ويستخدم نفس التعبيرات التى أستخدمها كعناوين لدراستى ."
كان دارون فى حيرة من أمره . هل يقوم بنشر دراسته عن التطور أم لا. وكان يقول: "أنا أفضل أن أقوم بحرق كتابى عن التطور, على أن يعتقد أحد, والاس أو غيره, أننى قد تصرفت بطريقة غير أخلاقية . لكن كلا من "ليل" و "هوكر", كانا من رأيهما أن يقوم دارون بنشر نظريته بالرغم من خطاب والاس . لكن دارون رفض الإنفراد بنسبة الفضل إلى نفسه , وقرر إشراك والاس معه. وهذا أمر يدل على نبل أخلاق دارون .
فى أول يوليو عام 1858م, قام دارون ووالاس بنشر مقال علمى مشترك فى جريدة علمية عن تنوع الكائنات ومواءمتها للبيئة عن طريق الإختيار الطبيعى.
عندما ظهر كتاب أصل الأنواع الذى يشرح فيه دارون نظريته فى النشوء والإرتقاء, قوبل بالحماس والرضا من علماء مهمين فى بريطانيا العظمى.
بعد سنوات قليلة, كانت نسبة المؤيدين لنظرية التطور لدارون فى تزايد مستمر. بالرغم من أن أسباب التطور كما عرضها دارون كان يشوبها قليل من الشك.
بالطبع كانت هناك معارضة شديد لنظرية التطور لدارون. بعض المعارضة كانت أقل مصداقية من الأخرى لأسباب مختلفة.
فى شتاء عام 1860م, عندما كانت إنجلترا تقبع تحت وابل من العواصف الثلجية, جلس آلاف الناس بجوار الدفايات يقرأون كتاب أصل الأنواع لدارون . 1250 نسخة من أول طبعة, نفذت من الأسواق فى يوم واحد. وفى شهر يناير, طبعت 3000 نسخة أخرى.
النشرة الدورية التى أغضبت دارون أكثر من غيرها, هى نشرة إيدينبرا عام 1860م. فالنقد الذى جاء بها لم يكن متوقعا . لكن كان من السهل إستنتاج أنه أسلوب "ريتشارد أوين" عالم البيلوجيا الذى كان يكن عداء شديدا لدارون . فقد وصف أوين كتاب دارون "أصل الأنواع", بأنه مسبة للعلوم . وكان يحتج بأن دارون ورفاقه يتسمون بالمادية العمياء . ويدعون أن الإختيار الطبيعى هو الطريق الوحيد الممكن للخلق . بينما هناك طرق أخرى للخلق.
الحرب الضروس بين هكسلى وأوين بدأت تهدأ بعض الشئ قبيل نشر كتاب أصل الأنواع لدارون. وكان أوين يحاول فى تلك الفترة إثبات أن أصل الإنسان يختلف عن باقى الحيوانات . فقد سبق أن قام عام 1850م بتشريح قرود إنسان الغابة, وقرود الشمبانزى, والغوريلا لدراسة هياكلها العظمية. وبذل أوين جهدا كبيرا للبحث عن شئ يميز الإنسان عن هذه الحيوانات. وكان يقول: "إذا لم نكن سوى نوع آخر من القرود, فما تبقى لنا من كرامة وكبرياء؟"
الذى يجعل الإنسان يتميز تميزا كبيرا عن باقى الحيوانات, هو قدرتنا العقلية. وقدرتنا على الكلام والإستنتاج . لذلك فحص أوين مخ القرود للبحث عن هذا الفرق . وفى عام 1857م, إدعى أوين أنه وجد ضالته. فنصفى كرة المخ فى الإنسان يمتدان كثيرا إلى الخلف مكونان فصا ثالثا. أسماه أوين القرين . وهو خاص بالإنسان, كفيل بأن يضع الإنسان فى مكان خاص به. إذن, مخ الإنسان يختلف عن مخ الشمبانزى . ومخ الشمبانزى يختلف عن مخ حيوان منقار البطة.
إشتبه هكسلى فى أن أوين قد خدع بدراسة أمخاخ حيوانات لم تحفظ جيدا. وبنى تصنيفه على خطأ جسيم . فيقول هكسلى:
"فى الواقع, مخ الإنسان لا يختلف كثيرا عن مخ الغوريلا. ومخ الغوريلا لا يختلف كثيرا عن مخ قرد البابون . ولست أنا الذى يحاول النيل من كرامة الإنسان وجعلها رهنا بوجود شبه بين الإنسان والقرود . لكن أحاول وأبذل ما فى وسعى كى أمحو غرور الإنسان هذا."
نقد أوين العنيف لنظرية أصل الأنواع لدارون , رفعت درجة حرارة التوتر بين أوين وهكسلى أكثر من قبل. وبعد شهور قليلة, إنفجرت عداوتهما فى عام 1860م . وعندما عقدت رابطة تقدم العلوم البريطانية إجتماعها السنوى فى إكسفورد, الذى حضره آلاف المدعوين, ألقى أوين, رئيس الرابطة, كلمته. شارحا مرة أخرى كيف يختلف مخ الإنسان عن مخ القرد.
لكن هكسلى جلس متربصا له. وعند نهاية كلمتة, وقف هكسلى وأعلن أنه لتوه قد وصله خطاب من عالم تشريح إسكتلندى مشهور, قام بتشريح مخ قرود الشمبانزى, فوجد أن مخ الشمبانزى يشبه إلى حد كبير مخ الإنسان, بما فى ذلك الفص الثالث المسمى البطين .
بعد كسب معركة مخ الإنسان, عزم هكسلى على مغادرة أكسفورد اليوم التالى. لكن تشامبرز مؤلف كتاب الآثار, نصحه بالإنتظار للدفاع عن دارون. لأنه قد نما إلى علمه أن الأسقف صامويل ويلبرفورس, سوف يهاجم دارون. فالأسقف له وزن كبير. ولسنوات عديدة, يقف ضد فكرة التطور بصفة عامة.
لذلك كان من المتوقع الا تختلف وجهة نظره فى كتاب دارون عن ذلك. وكان أوين يحل فى ضيافة الأسقف أثناء وجوده فى أكسفورد. وبالتالى كان يوحى إليه بالمعلومات التى سوف تساعده فى شجب أفكار دارون, عندما يقوم الأسقف بإلقاء كلمته.
في افتتاح المؤتمر في اليوم التالي وقف الأسقف ويلبرفورس, وكان قد نشر نقدا لكتاب دارون فى أحد الدوريات . فأعاد بعض ما كتبه فى نقده أمام الحاضرين .
وعندما أنهى خطابه, نظر إلى هكسلى وقال ساخرا: "أى جانب من أجدادك قد إنحدر من القرود."
لكن هكسلى هب واقفا متحديا الأسقف ومجيبا على سؤاله قائلا:
"لم يقل الأسقف شيئا جديدا, فيما عدا سؤاله عن أجدادى. وإذا سألنى شخص ما عما إذا كنت أفضل أن يكون جدى من سلالة بائسة من القرود, أو يكون جدى رجل موهوب بالفطرة ويمتلك الكثير من الأموال والنفوذ , إلا أنه يستخدم هذه الملكات وهذا النفوذ, لإقحام التهكم والسخرية فى مناقشات علمية خطيرة . أقول للسائل أننى أفضل بدون أى تردد أن يكون جدى من القرود."
ضجت القاعة بالضحك المتواصل,
جاء الآن دور جوزيف هوكر عالم البيولوجيا وأحد مؤيدى دارون, لإلقاء محاضرته. صعد هوكر إلى المنصة, وقام بمهاجمة الأسقف ويلبرفورس . وإتهمه بأحد أمرين: إما أنه لم يقرأ كتاب أصل الأنواع لدارون , أو أنه جاهل تماما بمبادئ علم البيولوجيا . وفى النهاية, إنتهى المؤتمر لصالح دارون . وأصبح هو سيد الموقف .
كانت هناك ثلاث إعتراضات هامة بالنسبة لنظرية دارون عند صدورها . الأولى جاءت من عالم الحيوان جورج ميفارت . فهو يقول أن نظرية الإنتخاب الطبيعى ربما تفسر سبب تأقلم الكائنات فى بيئتها الجديدة . لكنها لا تفسر المراحل الأولى لتكوين العضو الجديد فمثلا كيف بدأت العين تتكون من لا عين؟
فى البداية, ربما كانت العين عبارة عن نتوء صغير عديم الفائدة . لكى تتحول إلى عين , لابد أن يكون هناك علم مسبق هو الذى تسبب فى هذا النتوء.
لكن دارون يقول بأن هذا النتوء ربما كانت له فائدة أخرى غير النظر . ثم تحول إلى وظيفة أخرى تحت تأثير التطور . التراكم للمزايا الصغيرة المكتسبة عشوائيا , قد تبدأ مفيدة لشئ معين, ثم تنتهى بكونها مفيدة لشئ آخر . ربما تكون العين قد بدأت كعازل للحرارة أو للأشعة الحارقة لحماية الكائن , ثم تحولت إلى خلايا حساسة للضوء . الريش فى الطيور ربما يكون قد بدأ لهدف آخر , ثم تحول إلى ميزة تصلح للطيران.
الإعتراض الثانى قد أتى من وجود ثغرات زمنية كبيرة فى بقايا الكائنات المتحجرة . وكان دارون يقول أن هذه البقايا كانت موجودة ولكنها فقدت لسبب ما . وكان مقتنعا بأن مواصلة الحفر والتنقيب سوف تكتشف بقايا حجرية تملأ هذه الفجوات.
لكن هذا لم يحدث . وبذلك يكون دارون قد فشل فى تبرير وجود هذه الفجوات الزمنية . الآن لدينا شواهد كثيرة تدل على أن بعض الكائنات كانت مستقرة لا تتغير لمدة زمنية كبيرة, ثم إنقرضت فجأة ليحل محلها مخلوقات أخرى.
اليوم علماء البيولوجيا يقولون أن التغير حقيقة يحدث بالتدريج وبإستمرار كما يقول دارون , لكن يحدث أيضا معه تغيرات مباغتة وفجائية للمخلوقات ينتج عنها ظهور أنواع جديدة وإنقراض أنواع تالدة.
الإعتراض الثالث يقول بأن التغير التدريجى الذى تقوله نظرية دارون , يحتاج إلى حقبات زمنية طويلة جدا . هذا الفرض تعارض مع عمر الأرض كما قدره عالم الفيزياء كلفن فى ذلك الوقت. فقد قام كلفن بحساب عمر الأرض عن طريق قياس درجة حرارة باطنها وقياس حرارة سطحها. وجاءت حساباته تقول بأن الأرض شابة فى مقتبل العمر . عمرها القصير لا يسمح بالتغير التدريجى الذى يقترحه دارون.
كان دارون على حق, عندما شكك فى حسابات عالم الفيزياء كلفن لعمر الأرض . ولو عاش دارون مدة أطول, لتيقن أن عمر الأرض أطول بكثير من العمر الذى كان يعتقده.
الإعتراض الرابع, يأتى من جهل العلماء بأمور الوراثة البيولوجية . ولم تكن لدي دارون المعلومات الكافية لكى يدافع عن إعتراضات العالم الإسكتلندى فليمنج جينكن عام 1867م , عندما زعم مخطئنا , أن الصفات المكتسبة المميزة, سرعان ما تذوب عن طريق التزاوج , فى بودقة صفات المجموع وتختفى .
كان يعتقد جينكن أن العوامل الوراثية تنقسم إلى أجزاء صغيرة لا نهائية . وبذلك يمكنها أن تذوب فى المجموع وتختفى . المضحك أنه فى نفس الوقت الذى كان يهاجم فيه دارون بسبب عوامل الوراثة هذه , كان الراهب التشيكى مندل يقوم بدراسة عوامل الوراثة بإستخدام نبات البازلاء.
بعد أقل من عام واحد, قام ميندل بنشر أبحاثة التى يثبت أن العامل الوراثى لا ينقسم أو يتجزأ. العامل الوراثى إما موجود أو غير موجود. العيون الخضراء للأم, إما تكون موجودة فى الأبناء أو غير موجودة. لكن لا تمتزج مع غيرها وتتحول إلى عيون صفراء أو رمادى.
بسبب هجوم كلفن (عمر الأرض القصير), وجينكن (عامل الوراثة الذى يذوب) , بدأ دارون يفقد ثقته فى مبدأ الإختيار الطبيعى . لكن ثبتت الدراسات الحديثة أنه لم يكن فى حاجة إلى ذلك. فالأرض عجوز شمطاء يقدر عمرها ب 4.8 بليون سنة. وهى مدة أكثر من كافية لحدوث التطور كما يراه دارون . كما أن عوامل الوراثة ثبت أنها لا تتجزأ أوتذوب فى المجموع.
هذه بعض معطيات التاريخ حول نظرية التطور .
في الأسبوع القادم سوف نرى مدى الدعم الذي قدمته العلوم الحديثة لنظرية التطور .
السبت يناير 15, 2011 3:04 am من طرف غسان أبوراس
» هكذا فصولكِ الاربعه
الجمعة ديسمبر 31, 2010 1:22 pm من طرف عاشقة الورد
» كل الشكر للوموي
الأربعاء يوليو 28, 2010 4:06 pm من طرف الوموي
» اتمنى ان اتعرف عليكم
الثلاثاء يوليو 27, 2010 7:01 pm من طرف وسيم ابوكرم
» عاطف دنون الحمدلله على السلامه
الثلاثاء يوليو 27, 2010 6:32 pm من طرف وسيم ابوكرم
» كلمة شكر
الأحد يوليو 11, 2010 1:11 am من طرف ابوعمر
» ايها المغتربون استمتعو حيث انتم
الأربعاء يوليو 07, 2010 7:55 pm من طرف ابو يوسف
» خربشات إمرأة...ا
الخميس يوليو 01, 2010 1:31 am من طرف غسان أبوراس
» سويداء الوطن ... يرى النور
الثلاثاء يونيو 29, 2010 12:01 pm من طرف سيسو
» اعتذار عن خلل فني
السبت يونيو 12, 2010 7:32 pm من طرف الوموي
» هل نستطيع سلق بيضه بالموبايل
الثلاثاء يونيو 01, 2010 11:34 am من طرف الوموي
» صور لا تراها إلاّ في مصر
الثلاثاء يونيو 01, 2010 11:21 am من طرف الوموي
» نطرح للنقاش : ماذا تفعل عندما تشتاق لاشخاص لم يعد لهم وجود في حياتك
الإثنين مايو 31, 2010 9:43 am من طرف عماد أبو لطيف
» عذرا انه حلم
الإثنين مايو 31, 2010 9:30 am من طرف عماد أبو لطيف
» عذب الكلام
الخميس مايو 27, 2010 7:33 am من طرف عنب الجبل
» عمل تخريبي في أحد الأراضي المزروعة تفاح في بقعاثا
الأربعاء مايو 26, 2010 10:44 pm من طرف عفاف
» اخراج ... ابو عجاج
الأربعاء مايو 26, 2010 5:23 pm من طرف سيف بن ذي يزن
» Q & A
الأربعاء مايو 26, 2010 5:10 pm من طرف سيف بن ذي يزن
» مني مثل ومنك مثل..
الأربعاء مايو 26, 2010 4:53 pm من طرف سيف بن ذي يزن
» لنبق متألقين دوماً
الثلاثاء مايو 25, 2010 10:50 am من طرف غسان أبوراس