بقلم عماد بلان
قصة حقيقية جرت أحداثها قبل ما يزيد عن عقدين ونصف من الزمان بقليل .. يُسعِدُني أن أنقلها لكم بشيء من التصرف بما يخدم الهدف من سردها بصحبتكم الأنيسة ، لعلنا نستخلِص ما تنطوي عليه من معان ذات أهمية ، فتفضَّلوا :
.. " سالم " و " صادق " ، شابَّان شقيقان في العشرينيات من عمريهما ، قرَّرا الهجرة للعمل في ليبيا ، بعد أن تقطَّعت بهما سبل العيش في الوطن كما يرغبان.. وعند مساء يوم السفر ، استقلا سيارة أجرة من بلدتهما في إحدى محافظات الشمال التابعة لوطننا الحبيب سورية الكبرى .. واتخذت التاكسي طريقها نحو مدينة دمشق ومنها للمضي باتجاه المطار الدولي ، والرحلة بكاملها قد تستغرق ما لا يقل عن ساعات خمس .
.. السكون مخَيِّمٌ داخل السيارة التي تطوي الطريق مخترقة حُجُبَ ليلة باردة من ليالي شهر شباط ، الشقيق الأصغر " صادق " استسلم للنوم على المقعد الخلفي ، بينما استرخى سالم قليلاً على المقعد الأمامي بجانب السائق ، ولكسر حاجز الصمت بينهما ، فقد تبادل " سالم " أطراف أحاديث متفرقة ومقتضبة مع السائق تناولت شتى أمور كل منهما الحياتية ، و خلال الرحلة استأذن السائق من سالم في تعديل مساره عن الطريق الرئيسة وسلوك طريق صحراوي آخر يختصر الوقت والمسافة إلى دمشق ، وكان له ما أراد ، بعد أن سَلَّم " سالم " نفسه للنوم كأخيه " صادق " الذي علا شخيره من على المقعد الخلفي .
.. مضى وقت .. والسيارة تشق طريقها الصحراوي الضيق وغير المعَبَّد جيداً وسط ظلام دامس ، الأمر الذي حال بين " سالم " واستغراقه في النوم العميق ، ومن طرف عينه اليمنى نصف المُغمَضة استطاع " سالم " قراءة لوحة إرشادية كُتِب عليها " قرية سعدة " وتشير إلى اسم قرية مجاورة للطريق العام .. وبعد لحظات عاد لنومه المُتَقطِّع .. وفجأة .. وما بين اليقظة والحلم .. شعر سالم بهزات عنيفة ثم بانحرافات حادة للسيارة عن مسار طريقها ، ثم عَلَت أصوات وكأنها آثار اصطدام السيارة بشيء ما .. توقفت السيارة ، ونزل سائقها منها مهرولاً لجهة الخلف بعد أن أطفأ أنوارها ، وبقي الشقيقان في السيارة ، صادق غارق في نومه ، وسالم بين اليَقِظ والغافي .. دقائق مَرَّت وعاد السائق ينفض يدَه وملابسه وقد بدت عليه ملامح الارتباك والخوف والقلق ، وقبل أن يبدأ " سالم " السؤال عما حدث ، قال السائق بصوت متهدج خافت : الحمد لله يللي ما كانت أعظم .. ولا يهمَّك أخي سالم .. انت نام ولا يهمك إجِت سليمة .. الحمد لله .. الحمد لله ".. موتور بياع حليب ضرب شوي بسيارتنا .. وقع صاحبو على الأرض .. ساعدته وتفاهمنا على كم ليرة تعويض ، ومشي بحال سبيله .. الله مع دواليبو .. نام لَك أخي .. نام ولا تهتم " .. واستمرت الرحلة صامتة حتى المطار ، وانتهى هذا الفصل الأول من القصة بعد أن أقلَعت الطائرة تحمل الشقيقين اللذين وصلا بخير وسلامة إلى ليبيا .
.. أمضى الشقيقان في مدينة " بنغازي " الليبية سنوات ثلاث متواصلة دون إجازة عودة إلى الوطن ، وهناك تعرَّفا على الكثير من الشباب السوريين وغيرهم من العاملين في ليبيا ، بعدها انتقل " سالم " لوحده إلى " طرابلس الغرب " وانضم في سكنه إلى شاب سوري آخر اسمه " أحمد " تعرف إليه حديثاً ، وخلال اللقاءات الأولى بينهما كان لا بد من أن " يُفَضفِض " كل منهما بما في صدره من مكنونات عن قصص الغربة وأسبابها وآلامها .
.. ويتحدث الشاب " أحمد " عن نفسه وعن حكايته مع الحياة .. إنه في الخامسة والعشرين من عمره ، وصل إلى ليبيا قبل سنتين ليعمل في الأصباغ والدهانات ، فقد غادر قريتَه فقيراً بعد أن حَمَّلَه القَدَر مسؤولية إعالة أسرة مكونة من أمه وشقيقات ثلاث وشقيقين يصغرانه .. ليس لديهم من أسباب العيش إلا رحمة المولى بعد وفاة والدهم ربِّ الأسرة ومعيلها الوحيد ، والذي كان يعمل كوسيط لبيع الحليب بين القرى المتجاورة .. يغادر منزله قبل منتصف كل ليلة على دراجته النارية ، ليطوف بأهالي القرى من أصحاب الأبقار ومنتجي الحليب لحجز كميات منها لحساب تجار آخرين مقابل عمولات زهيدة .. تابع أحمد يقول : إننا يا صاحبي من قرية اسمها " سعدة " .. تقول من قرية سعدة ؟؟ !! سأله " سالم "بلهفة وقد بدَت عليه دهشة مفاجِئة ، فأجابه أحمد : نعم ، من قرية سعدة !! خير ؟؟ !! شو صارلك يا رَجُل ؟؟ فقال سالم : لا بأس يا أحمد تابع حديثك .. تابع .
.. واسترسل أحمد يقول : وذات فجر بارد من أيام شهر شباط قبل ثلاث سنوات استيقظنا على صراخ رجال وعويل نساء من أهل قريتنا " سعدة " .. فقد جاؤوا يحملون والدي .. مَيِّتاً ،، بعد أن فوجئ عابرو الطريق العام بجثته هامدة لا حراك فيها وعليها آثار عميقة تؤكد أنه قد تعرض لحادث مروري خلال الليل ، فالدماء كانت قد نزفت بغزارة من جهات عديدة من جسمه.. وتجمعت في بؤرة متجمدة .. أمَّا " الموتور " الذي كان يقوده فقد كان محطَّماً على قارعة الطريق !!
.. فَغَرَ " سالم " فاهُ وقد انعقد لسانه من الدهشة .. والصدمة .. لقد استرجع من ذاكرته بقايا صور وأصداء لا زالت عالقة في زوايا من مخيلته منذ تلك الليلة .. ليلة رحلته وشقيقه من بلدتهما إلى المطار الدولي مروراً بتلك المنطقة .. وأخذ يردد بينه وبين نفسه .. اللوحة الإرشادية لقرية " سعدة " ؟.. الطريق الصحراوي المظلم ؟ .. الاصطدام " البسيط " مع صاحب موتور الحليب - كما وصفه سائق التاكسي ؟ .. ليلة باردة من ليالي شهر شباط ؟ .. قبل سنوات ثلاث ؟؟.. وكأنه يحاول الانقضاض على عنق حقيقة ٍ تحاول التسلل والهرب .. قفز سالم من على مقعده وتوجه نحو خزانته .. فتح درجه الخاص .. أخرج جواز سفره .. وأخذ يُقَلِّب صفحاته بسرعة ولهفة .. ثم توقف فجأة .. وسأل صديقه أحمد : هل تتذكر تماماً تاريخ وفاة أبيك في الحادث ؟؟ أجابه أحمد : نعم ، كان ذلك بتاريخ 29 شباط عام 1983 .. ولا أنسى ذلك التاريخ لأنها كانت سنة كبيسة كما تلاحظ .. 29 شباط !! وعلى الفور قدَّم " سالم " جواز سفره مفتوحاً على صفحة خاتم جوازات مطار دمشق مؤكِّداً تاريخه في 29 شباط 1983 .. وهو تاريخ سفره مع شقيقه .. وهو نفسه تاريخ وقوع الحادث .. سبحان الله .. كانت مجموعة قرائن ودلائل شاءت إرادة المولى ورحمته جلَّ وعلا أن تبعثها من ذاكرة رجل عابر .. بعد سنوات من وأدِها في ملف جريمة طويت صفحاتها .. وقُيِّدَت ضد مجهول ،
.. في اليوم التالي ، سافر أحمد .. وفور وصوله إلى سورية تقدم إلى الجهات الأمنية بكافة البيانات التي زوده بها صديقه سالم ، فكانت كافية لإعادة فتح ملف التحقيق من جديد ، وكفيلة بالقبض خلال أيام قليلة على سائق التاكسي الذي أقَرَّ بجريمته غير المقصودة بصدم الضحية ، وجريمته المقصودة بالتهرب من إنقاذها وتركها ساعة كان يمكن إنقاذها .
.. إنها عدالة السماء الباقية والدائمة ، عندما تعجز عدالة الأرض عن إحقاق الحق وتنفيذ القصاص.
السبت يناير 15, 2011 3:04 am من طرف غسان أبوراس
» هكذا فصولكِ الاربعه
الجمعة ديسمبر 31, 2010 1:22 pm من طرف عاشقة الورد
» كل الشكر للوموي
الأربعاء يوليو 28, 2010 4:06 pm من طرف الوموي
» اتمنى ان اتعرف عليكم
الثلاثاء يوليو 27, 2010 7:01 pm من طرف وسيم ابوكرم
» عاطف دنون الحمدلله على السلامه
الثلاثاء يوليو 27, 2010 6:32 pm من طرف وسيم ابوكرم
» كلمة شكر
الأحد يوليو 11, 2010 1:11 am من طرف ابوعمر
» ايها المغتربون استمتعو حيث انتم
الأربعاء يوليو 07, 2010 7:55 pm من طرف ابو يوسف
» خربشات إمرأة...ا
الخميس يوليو 01, 2010 1:31 am من طرف غسان أبوراس
» سويداء الوطن ... يرى النور
الثلاثاء يونيو 29, 2010 12:01 pm من طرف سيسو
» اعتذار عن خلل فني
السبت يونيو 12, 2010 7:32 pm من طرف الوموي
» هل نستطيع سلق بيضه بالموبايل
الثلاثاء يونيو 01, 2010 11:34 am من طرف الوموي
» صور لا تراها إلاّ في مصر
الثلاثاء يونيو 01, 2010 11:21 am من طرف الوموي
» نطرح للنقاش : ماذا تفعل عندما تشتاق لاشخاص لم يعد لهم وجود في حياتك
الإثنين مايو 31, 2010 9:43 am من طرف عماد أبو لطيف
» عذرا انه حلم
الإثنين مايو 31, 2010 9:30 am من طرف عماد أبو لطيف
» عذب الكلام
الخميس مايو 27, 2010 7:33 am من طرف عنب الجبل
» عمل تخريبي في أحد الأراضي المزروعة تفاح في بقعاثا
الأربعاء مايو 26, 2010 10:44 pm من طرف عفاف
» اخراج ... ابو عجاج
الأربعاء مايو 26, 2010 5:23 pm من طرف سيف بن ذي يزن
» Q & A
الأربعاء مايو 26, 2010 5:10 pm من طرف سيف بن ذي يزن
» مني مثل ومنك مثل..
الأربعاء مايو 26, 2010 4:53 pm من طرف سيف بن ذي يزن
» لنبق متألقين دوماً
الثلاثاء مايو 25, 2010 10:50 am من طرف غسان أبوراس