وبالوالدَين إحساناً...
بقلم عماد بلان
.. بعد ظهيرة يوم ربيعي مائل للبرودة .. وعند ركن هادئ في مطعم يُطل على البحر، وحول طاولة قرب النافذة المحاذية للشاطئ الرملي
.. تحلَّق أربعة شباب يتناولون الشطائر مع البطاطا والمقبلات ، ويشربون الكولا .. يتهامسون ويضحكون ، وأحياناً ينصتون إلى هدير أمواج بحر الحياة تتلاطم وتتصارع ، حالها هكذا منذ الأزل وإلى ما شاء بارئ الكون وما فيه ..
.. انتهى الشباب من تناول وجباتهم ، واستغرق كل منهم في تأملاته .. أنظارهم تمتد إلى الأفق البعيد إلى حيث ترسو سفينة أحلامهم الوردية الشبابية .. يحسبونها ستمخر عباب بحر الحياة بأمن وأمان ، لتصل المستقبل الزاهر بخير وسلام ، غير عابئين بما تخفيه الحياة من مفاجآت ليست بالحسبان ، وما أشبه الحياة بالبحر الممتد أمامهم ، ومع هذا فهم لا يخافون ، و لِمَ يخافون ؟؟ وكل منهم يسمع أمَّه كل صباح تصلي وتدعو الله تعالى أن يحفظه من كل مكروه .. وهذا يكفي !! فدعاء الأم مُستَجاب من السميع العليم المُجيب ، جلَّ وعلا .
.. حانت من أحدهم التفاتة سريعة إلى زاوية جانبية من الشاطئ .. حيث لاحظ أن امرأة طال جلوسها وجمودها منذ وصولهم المطعم قبل ساعة ونصف تقريباً، مما أثار الشكوك لديه، استأذن أصحابه وتوجه نحو الجالسة على المقعد الخشبي، اقترب منها بهدوء إلى مسافة جعلت المرأة تنتبه إليه.. فأخذت تلوح له بيديها كأم تتلهف لعناق وليدها واحتضانه بعد طول فراق ..
صاحت به : أين أنتَ يا أحمد يا غالي ؟؟ تأخرتَ علي َّ طويلاً يا ولدي !! اقترب الشاب منها متسائلاً: أنا لستُ أحمد يا خالة.. أكيد أنك تنتظرين من يدعى أحمد ؟ وربما هو ابنكِ ؟ .. أنتَ تشبهه بقامتكَ يا ولدي، أجابت المرأة العجوز وتابعت: نعم هو ابني أحمد، أحضرَني إلى هنا منذ الصباح، على أن يعود بعد ساعة أو اثنتين، تركني – سامحه الله - بلا طعام ولا ماء، ولا حتى مال !.. لكنه سيعود .. بالتأكيد سيعود . . الآن أنا عطشانة يا ولدي .. فهل لديكَ القليل من الماء ؟؟ أجابها الفتى : سآتيكِ يا خالة بالماء والطعام بعد قليل ، ولكن هل لديكِ ما يُرشدني إلى ابنكِ ؟ عنوانه.. ؟ أو رقم هاتفه مثلاً ..؟ أخرجت العجوز من جيبها قصاصة ورق وناولتها للشاب قائلة: إليكَ ما أعطاني قبل أن يتركني هنا صباحاً .. لا شكَّ أن فيها ما تريده ، فأنا لا أقرأ يا بُني .. ولا أكتب !!
.. تناول الشاب الورقة ونظر فيها .. ثم فجأة !! ضرب كفه بجبهته والتفتَ بنظره نحو البحر الواسع لعله يشتت الصدمة التي صعقته عندما قرأ في الورقة عبارة تقول: (.. من يصادف هذه المرأة ، فليأخذها إلى أقرب دار للعجزة .. ) !!
.. هرع الشاب إلى أصدقائه يطلعهم على الخبر المؤلم والمؤسف ، جاؤوا إليها كلهم يحملون الطعام والماء يرجونها أن ترحل معهم على وعد ٍ وأمل بالاتصال بابنها ليأتي ويأخذها بخير وسلامة بدلاً من الانتظار هنا في هذا المكان الغريب والذي بدأت رياح باردة أكثر فأكثر تهب عليه .. فما استجابت العجوز لرجائهم ولا امتثلَت لإلحاحهم ، فقد كانت على أمل أكيد بعودة ابنها ليأخذها معه إلى البيت ، وأصرَّت على أن أمراً عارضاً قد أخَّره حتى الآن .. هكذا احتجَّت المسكينة ! .. وأمام إصرارها هذا ، لم يجد الشباب من بد ٍّ سوى المضي دونها.. وبقيت هي تنتظر .. لعل وعَسى.!!
.. مضى الشباب وتفرقوا .. واحد إلى أعماله ومشاغله ، والثاني إلى همومه ومشاكله ، والآخَر إلى أحلامه وأوهامه .. إلا الأخير منهم والذي التقى بالعجوز أول مرة ، فقد هجر النوم مقلتيه ، بعد أن أحاطت بخياله صورة العجوز وألحت عليه آلام مأساتها ، فنهض مسرعاً من فراشه .. ارتدى ملابسه على عَجَل ، وركب سيارتَه متوجهاً إلى نفس المكان .. إلى شاطئ البحر حيث كانت العجوز بانتظار ابنها .. !! وما إن اقترب الشاب من المكان المقصود حتى فوجئ بمشهد أثار الريبة في نفسه ، فحبس أنفاسه ترقباً لمعرفة الحقيقة .. كانت أضواء مُبهرة ومتقطعة لسيارات النجدة وأنوار مركبات الإسعاف وقد تدافعَت بينها جموع من الناس وتزاحمَت حول مشهد تتقطع له القلوب ألماً و لوعة.. كانت العجوز مُستلقية على المقعد الخشبي.. جثة هامدة لا حراك فيها .. بعد أن أسلمت روحها الطاهرة قبل قليل إلى بارئها سبحانه وتعالى ..
.. نعم " يا سامعين الصوت " لقد فاض بالأم العجوز قلقها على غياب ابنها .. واشتد خوفها على مصيره المجهول منذ الصباح الباكر .. فماتت بسبب ارتفاع حاد في ضغط الدم !! .. وكانت شهيدة الأمومة الصادقة .. كصدق أمومة أمي وأمهاتكم جميعاً .
بسم الله الرحمن الرحيم .. " وقضى ربُّكَ ألا تعبُدوا إلا إياه وبالوالدَين إحساناً ، إمَّا يَبلُغَنَّ عندَك الكِبَر أحدُهُما أو كلاهما ، فلا تَقُل لهُما أف ٍّ ولا تَنهَرهُما ، وَقُل لهما قولاً كريما ، واخفض لهما جَناح الذُل ِّ من الرحمة ، وَ قُل رب ِّ ارحمهُما كَما ربَّياني صغيرا " .. صدق الله العظيم
السبت يناير 15, 2011 3:04 am من طرف غسان أبوراس
» هكذا فصولكِ الاربعه
الجمعة ديسمبر 31, 2010 1:22 pm من طرف عاشقة الورد
» كل الشكر للوموي
الأربعاء يوليو 28, 2010 4:06 pm من طرف الوموي
» اتمنى ان اتعرف عليكم
الثلاثاء يوليو 27, 2010 7:01 pm من طرف وسيم ابوكرم
» عاطف دنون الحمدلله على السلامه
الثلاثاء يوليو 27, 2010 6:32 pm من طرف وسيم ابوكرم
» كلمة شكر
الأحد يوليو 11, 2010 1:11 am من طرف ابوعمر
» ايها المغتربون استمتعو حيث انتم
الأربعاء يوليو 07, 2010 7:55 pm من طرف ابو يوسف
» خربشات إمرأة...ا
الخميس يوليو 01, 2010 1:31 am من طرف غسان أبوراس
» سويداء الوطن ... يرى النور
الثلاثاء يونيو 29, 2010 12:01 pm من طرف سيسو
» اعتذار عن خلل فني
السبت يونيو 12, 2010 7:32 pm من طرف الوموي
» هل نستطيع سلق بيضه بالموبايل
الثلاثاء يونيو 01, 2010 11:34 am من طرف الوموي
» صور لا تراها إلاّ في مصر
الثلاثاء يونيو 01, 2010 11:21 am من طرف الوموي
» نطرح للنقاش : ماذا تفعل عندما تشتاق لاشخاص لم يعد لهم وجود في حياتك
الإثنين مايو 31, 2010 9:43 am من طرف عماد أبو لطيف
» عذرا انه حلم
الإثنين مايو 31, 2010 9:30 am من طرف عماد أبو لطيف
» عذب الكلام
الخميس مايو 27, 2010 7:33 am من طرف عنب الجبل
» عمل تخريبي في أحد الأراضي المزروعة تفاح في بقعاثا
الأربعاء مايو 26, 2010 10:44 pm من طرف عفاف
» اخراج ... ابو عجاج
الأربعاء مايو 26, 2010 5:23 pm من طرف سيف بن ذي يزن
» Q & A
الأربعاء مايو 26, 2010 5:10 pm من طرف سيف بن ذي يزن
» مني مثل ومنك مثل..
الأربعاء مايو 26, 2010 4:53 pm من طرف سيف بن ذي يزن
» لنبق متألقين دوماً
الثلاثاء مايو 25, 2010 10:50 am من طرف غسان أبوراس